الصغير ليس فقط مقهور ولكنه أسير وسجين لإرادة الكبير
الكبير يفرض سطوته على الصغير
ـــــــــــــ
لا وطن حر، بمتعلم مقهور !!
د.سعيد إسماعيل على | 29-09-2011 00:26
فى الثالث والعشرين من يناير عام 1953، شهد ميدان التحرير بالقاهرة احتفال قادة ثورة يوليو بمرور ستة شهور على قيامها، وكان من فاعلياتها استعراض عسكرى لأعضاء منظمة كانت تدعى " منظمة الشباب " ، وهى غير المنظمة التى عرفت بعد ذلك فى الاتحاد الاشتراكى فى الستينيات من القرن الماضى، وكان من حظى أن أشارك فى هذا الاستعراض العسكرى، حيث كنت طالبا بالصف الأول ثانوى ( قديم = الآن الصف الثانى الإعدادى ) .
كنا نقوم قبل الاستعراض بمجموعة تدريبات متعددة، وكنت أتصور أن ستكون لنا مهمة محددة بعد الاستعراض، تقوم على صورة من صور التربية العسكرية التى تصورنا أن هذه المنظمة، ووفقا لما تدربنا عليه بعض الشىء، فإذا بالأمر، وكأنه قد انتهى بانتهاء الاستعراض، مما استفزنى، خاصة وقد كنا مشحونين بآمال عريضة، وروح متدفقة، غرستها فينا ثورة يوليو خلال ما مضى من شهور ست، فانتهزت فرصة إخراجى للعدد الأول من مجلة حائط علقتها فى فناء المدرسة، وانتقدت هذا الموقف بشدة، وكان عنوان المقال ( عرائس المولد )، حيث اتهمت المنظمة بأنها تعاملت معنا وكأننا " عرائس مولد "، لا تظهر إلا فى الاحتفالات !
وفى يوم، كنا ننتظر مدرس الرسم، فى الحصة المقررة، وكان هو نفسه المسئول عن المنظمة فى المدرسة، فلما حضر سأل يصوت زاعق ساخط عن المدعو " سعيد إسماعيل "، فلما وقفت، إذا به يهجم علىّ، وينهال على وجهى صفعا بالكف مرات عديدة، وبالشلاليبت مرة أخرى، ثم لا يكتفى بذلك، بل يشدنى عنوة إلى فناء المدرسة، ممزقا لمجلة الحائط، قاذفا بأشلائها على الأرض، داسا لها بأقدامه، مع سيل لا ينتهى من التقريع لشخصى، والسب الجارح يؤكد من خلالها أننى " ولد بايظ"، لأننى كتبت ما كتبت، ناقدا وضع المنظمة !
كان هذا درسا ما زال عالقا بذاكرتى رغم مرور عشرات السنين عليه، يُعَلمنى قيمة ممارسة الديمقراطية فى مدارسنا، ومتى؟ حيث كنا نعيش حدثا ثوريا تاريخيا غيّر الكثير لا فى المجتمع المصرى وحده، بل فى المنطقة العربية بأسرها.
مفروض، نتيجة لهذا، أن أستوعب الدرس، فلا أنطق بحقيقة ما أعتقد، لكن ما حدث هو العكس، فرب ضارة نافعة : غرس هذا فى قلبى وعقلى إيمانا لا يتزعزع بقيمة الديمقراطية، لأنى افتقدتها، وإيمانى الذى لا يتزعزع، بضرورتها لحسن التكوين والتنشئة، لأنى حُرمت منها، وأنها لا تكون مجرد " ديكور "، بل حقيقة مجسدة فى الواقع، تتبدى فى ممارسات، وتعبيرات، وتنظيمات، وقواعد، وحقوق وواجبات، ونتائج.
وتصادف بعدها بعام واحد أن بدأ التصادم بين رجال ثورة يوليو والإخوان المسلمين، حيث كان أصدقائى الحميمين، طلابا فى الجماعة. ورغم محاولاتهم ضمى إليهم، فقد رفضت دائما، لكننى فى الوقت نفسه كنت مقدرا ومعجبا ومحبا لهذه المجموعة من أصدقائى الطلاب، حيث كانوا على قدر عال من الأخلاق الفاضلة، والجدية، والاجتهاد الدراسى. ومن هنا فقد تأذيت إلى حد كبير وأنا أرى وأسمع وأشاهد ما حدث لهؤلاء الأصدقاء الطلاب من تنكيل وتعذيب وسجن وأسر وتشتيت، نتيجة ذنب لم يرتكبوه، بل وتظل اللعنة وراءهم، سنين عددا !
ومن المفارقات حقا، أن ثورة يوليو، استطاعت بالفعل أن تحرر الوطن من الكثير مما كان يكبل حركته، بل واستطاعت مثل هذا أيضا، بالنسبة لأقطار عربية متعددة. وجه المفارقة أن الحرية الفردية غابت عن الثوار، على أساس أن " المصلحة العامة " تجُبّ المصلحة الخاصة، دون وعى أن الديمقراطية هنا لابد أن يكون لها منطق مختلف، حيث لا تتجزأ بين فرد ووطن، فلا حرية لوطن، مواطنه مقهور، ولا حرية لمواطن وطنه مقهور.
ولعل هذا كان هو مكمن الخلل الكبير فى ثورة يوليو، مع الإقرار بما يصعب حصره من مفاخرها وجليل إنجازاتها.
وكأن " تأميما " للعقول قد حدث، وتسليما للعقل الوطنى إلى الزعيم، ليفكر بدلا منا، ويقلب الأمور بدلا منا، ويختار من البدائل بدلا منا ..وهكذا، دون أن نحتج، ثقة فى وطنيته، وإيمانا بإخلاصه، فضلا عن خوف من بطش أجهزته الأمنية، فلما اختاره ربه لجواره، شعرنا جميعا، شعور أطفال، تركتهم أمهم فجأة، فاسودت الدنيا فى وجوههم، ولم يدروا ماذا يفعلون، حيث مات الذى كان يفكر لهم، ويتخذ لهم القرارات ولم يملكوا إلا البكاء!
وكانت مصر قد شهدت تجربة مماثلة فى أول القرن التاسع عشر فى عهد محمد على، حيث استطاع، ولأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث أن ينقل تعليم المصريين من غيابات جُبّ عصور التخلف إلى الحداثة والتقدمية والنهضة.
لكنه وقع فى الفخ نفسه: المهم: مصلحة مصر، وهى مقولة صحيحة، من غير شك، لكنه، مرة أخرى، تصور تناقضا بين حرية المواطن، وحرية الوطن، فضحى بالأولى فى سبيل الثانية، حتى أنه، عندما كان يريد فتح مدرسة، كان يرسل إلى مسئولى الأقاليم " بالقبض " على عدد كذا من الأطفال" لزوم المدرسة"، وأحيانا ما كانوا يُربَطون بالسلاسل أو الحبال حتى لا يهربوا، لأن أحدا من أهاليهم ، أحيانا، لم يكونوا يدرون: إلى أين سيذهب أبناؤهم، ولا يدرى أحد متى يعودون؟
ومن هنا، عندما سقط الوطن تحت أقدام قوى الهيمنة الكبرى الخارجية، لم يجد "مواطنين أحرارا " يمكن أن يواصلوا مسيرة النهوض.
وتتأكد الحقيقة التى نؤمن بها: لا وطن حر بدون مواطن حر..كما أن لا مواطن حر فى وطن مقهور...
وهكذا، يمكن أن نطرح جانبا الكثير مما قيل وكتب، تفريقا بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية الأخرى، لنؤكد أن الإنسان هو الكائن الحى، الحر حرية مسئولة، نقول "مسئولة"، لأن البعض قد يتصور أن الحيوانات، إذ لا تحمل همّ المبيت، ولا الحصول على المأوى، وتستطيع أن تنام وقتما تريد، فى أى مكان تريد..وهكذا، فهى تتمتع بالحرية بقدر أكثر من الإنسان ! لكن، ليست هذه هى الحرية الحقيقية، إن الحرية الحقيقية تقوم على إعمال العقل، والتحسب، والتخطيط، وطرح البدائل، والاستعداد لتحمل المسئولية التى تترتب على ما يتم من اختيارات.
ومن أقيم ما قرأت حقا للدكتورة عائشة عبد الرحمن، تفسيرا لقول المولى عز وجل فى سورة الأحزاب : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)) ، بأن الأمانة التى لم تستطع هذه المخلوقات الهائلة، الضخمة، من جبال، وسموات، بكل ما فيها، والأرض، بكل ما فيها، إنما هى " حرية الإرادة "، ليصبح الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يتحمل تبعات ما يختار، مما استتبع أن يوهب العقل، ومن ثم أصبحت الحرية لديه هى " الحرية المسئولة"، ومن ثم أيضا أصبح هو الكائن الوحيد الذى يتعرض للمساءلة والمحاسبة من قِبل الخالق.
والمسلم عندما يهتف قائلا " لا إله إلا الله "، فمروض أن يكون هذا إعلانا بالتحرر؛ حيث لا سيد إلا الله، وبالتالى فإن كل مستوى من البشر، مهما علت مرتبته، لا يحق له أن يمارس علينا تسلطا،إنما الخضوع والطاعة للقواعد المنظمة، والمبادئ المؤسِّسة، والقيم الهادية، ولعل هذا هو المغزى الحقيقى للمبدأ الإسلامى الرائع الذى يقضى بأن لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى ، حيث المقارنة هنا ليست فقط بين العربى والأعجمى، كما قد يوحى ظاهر النص، وإنما بين كل أشكال وصور التمييز، بغير حق. والتقوى هنا ليست كما يتصور البعض مجرد تدين شكلى، بل هى قيمة جامعة، تعنى كل ما يقى الإنسان من غضب الله، وبالتالى فإن إيقاع الظلم بالآخرين، وممارسة القهر عليهم، يأتى بالضرورة فى مقدمة ما يغضب الله، لأن من يمارس هذا فكأنه يسعى إلى مشاركة الله فى شأن مهم من شئونه، حيث العلم بالنوايا، والمحاسبة عليها وتوقيع العقاب.
ومن هنا فقد كان من أولى القضايا التى اهتممت بها، عندما بدأت أُدَرِّس التربية الإسلامية بتربية الأزهر فى أول السبعينيات أن أنجزت دراسة بعنوان ( الاتجاه الديمقراطى فى التربية الإسلامية ) ، والتى ظهرت بعد ذلك فى كتاب بعنوان ( ديمقراطية التربية الإسلامية ) سعيا منى لإزالة هذا الوهم الذى يُشاع عن الدين الإسلامى بأنه يفرض حجرا على العقول، ويُعلى من الطاعة، ويتم التحذير دائما من أن النظام ذى المرجعية الإسلامية خطر على الديمقراطية، وهو الأمر المجافى تماما للحقيقة.
ـــــــــــــ
ـــــــــ
مقالات هامة ذات صلة
كلمة مؤتمر TO BE الدولي
ساحة النقاش